الإستثمارات الأجنبية المباشرة عبر العالم : الرابحون والخاسرون
منذ بكور عقد الثمانينيات من القرن العشرين شهد العالم تحولا كبيرا على مستوى تدويل الاقتصاد تمثل في البروز المتزايد ، والنمو السريع للاستثمار الأجنبي المباشر. لقد كان نمو التجارة هو العامل المهيمن المحرك للاقتصاد العالمي خلال الفترة ما بين 1945- 1973 ، أما العامل المحرك للاقتصاد ابتداء من عقد الثمانينيات فصاعدا ، فهو ، كما يقال نمو الاستثمار الأجنبي المباشر .
فالآليات الكونية التي تؤثر في بنية ونمو الاقتصاد الحقيقي دون سواها ، هي التجارة والاستثمار الأجنبي المباشر وتعتبر الشركات المتعدية الجنسيات هي الأدوات الرئيسية والمسؤولة عن الاستثمار الأجنبي المباشر .
لكن الملاحظ منذ الوهلة الأولى ، أن توزيع الاستثمار الأجنبي المباشر غير متساو ، اجتماعيا وجغرافيا ، على نظام الكون برمته بل وفي أحيان كثيرة حتى داخل البلد الواحد نفسه .
ونأخذ هنا كنموذج كل من المغرب والصين الدولة الرائدة قاريا وعالميا على مستوى جلب الاستثمارات الأجنبية المباشرة ، بحيث نلاحظ إخلالا فاضحا على مستوى تركز وتوزيع هذه الاستثمارات .
ففي المغرب تتركز الاستثمارات في حدود ما عرف زمن الحماية بالمغرب النافع الممتد من الجديدة إلى القنيطرة ، وفي الصين على امتداد السواحل الجنوبية الشرقية للتنين الأكبر الأسيوي ، أي مناطق : ( كواندونغ ، وشانغهاي ، وهونغ كونغ ) على حساب الوسط والداخل القاري للصين ذات المساحة القارية .
كما هو حال المغرب الذي أهمل لعقود طوال ، كلا من المناطق الشمالية والشرقية والجنوبية ليتفطن مؤخرا أمام التحديات الخارجية القريبة والبعيدة في زمني العولمة ، واتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي إلى ضرورة تقريب الهوة ولو جزئيا بين كثير من المناطق والجهات ، وهذا فعلا ما تضمنته الرسالة الملكية الموجهة إلى الوزير الأول۔ سابقا- عبد الرحمان يوسفي بخصوص التدبير اللامتمرکز للاستثمار في 09 يناير/ كانون الثاني 2002 بالدار البيضاء .
فالاستثمار الأجنبي المباشر يتركز بدرجة كثيفة في الدول الصناعية المتقدمة ، وفي عدد ضئيل من الاقتصاديات الصناعية الناشئة ، أي النامية نموا متسارعا .
وكما سنرى فإن هناك فوارق قومية هائلة ومهمة في جاذبية شتى المواضع للاستثمار ونشاط الأعمال الأخرى .
فالدول تتفاوت تفاوتا جليا في قدرة اقتصادياتها على تحقيق مزايا الاستثمار الأجنبي المباشر للشركات المتعدية الجنسيات ، بما لا يمكن إغفاله .
كما أن الشركات بحاجة إلى شروط قانونية وسياسة تجارية في البلد المعني لحماية استثماراتها ، وهي قيود تمنعها من أن تغدو خارج نطاق الإقليم بالكامل .
فمع هبوب رياح الكوكبة المتوحشة ، والتقدم العاصف للشركات المتعدية الجنسيات ، فإن ثمة اعتقاد غالب بأن الأهمية المركزية التي تلعبها مختلف " النظم الوطنية "( كالأعمال ، والتجديد ، وعلاقات العمل ، والمالية ، والإنتاج ... هلم جرا ) باتت تحت الحصار ، نظرا لتدويل ممارسات العمال تدويلا سريعا.
وثمة اعتقاد بأن الشركات تجوب الكون بحثا عن مواضع إنتاج رخيص ولكن كفأ ، يقدم لها أكبر الأرباح وأضمنها عند النجاح في المنافسة .
قدر عدد الشركات المتعددة الجنسيات في منتصف التسعينيات من القرن المنصرم بنحو 45000 شركة ، تسيطر على زهاء 280000 شركة تابعة ( إحصاءات الأمم المتحدة لعام 1997) ان المنشأ الوطني ل 37000 شركة من هذه الشركات ( أي نحو 28 في المائة منها ) في 14 بلدا متطورا من بلدان منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية ، وإن 90 في المائة من مقار إدارة تلك الشركات تقع في العالم المتقدم .
ففي سنة 1992 بلغ حجم الاستثمار الأجنبي المباشر 32 تريليونات دولار . وكانت الشركات المتعدية الجنسيات التي تسيطر على هذا الاستثمار مسؤولة عن بيوع ( محلية وعالمية ) تناهز 07 تريليونات دولار. ويزيد ذلك كثيرا ، على المجموع الكلي للتجارة العالمية ، البالغ 53 تريليون دولار في العام 1996. وإن ما نسبته 08 في المائة من مجموع الاستثمارات الأجنبية المباشرة قد جاء من شركات متعدية الجنسيات ذات منشأ من بلد نام ، برغم أنها شكلت نحو15 في المائة من التدفقات .
لقد تحقق مثلا نحو 80 في المائة من تجارة الولايات المتحدة على يد الشركات المتعدية الجنسيات ، وهي نسبة مميزة أيضا للبلدان المتقدمة ككل . ولكن ثمة تقديرا بأن نحو40 في المائة من المجموع الكلي لتجارة الولايات المتحدة كان يجري ضمن هذه الشركات .
ومن الواضح أن ثمة ارتباطا وثيقا بين الاستثمار الأجنبي المباشر للشركات المتعدية الجنسيات وبين تجارتها .
غير أن هناك تغيرات مهمة تطرأ على هذين الجانبين ، وتبرز في نمط كل واحد منهما . في حين ، أن هناك تركز ضخم في الاستثمارات الأجنبية المباشرة . فأكبر 100 شركة متعدية الجنسيات التي تسيطر على زهاء 1 / 5 (خمس) مجموع الأصول الأجنبية كونيا ، حققت مبيعات بمقدار تريليوني من الدولارات ، مستخدمة 6 ملايين عامل ، في سنة 1995 ، وبحدود القدرة على تمييز نشاط هذه الشركات ، فإن 60 في المائة من أرصدتها اقترنت بالصناعة التحويلية ، و37 في المائة بالخدمات، و03 في المائة بالقطاع الأولي . وإن نمو الاستثمارات الأجنبية المباشرة في قطاع الخدمات هو السمة المميزة للصعود الأخير في مستوى مجمل الاستثمارات .
فابتداء من مطلع الثمانينيات من القرن العشرين ، برز میل مختلف نراه واضحا ، واللافت للنظر هنا تلك الزيادة المفاجئة في تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر في منتصف نفس العقد ، وبخاصة نحو البلدان الصناعية الغربية في أمريكا ، وأوروبا ، واليابان .
ففي الفترة الفاصلة ما بين 1985- 1995 ، حيث نمت تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر بمعدل وسطي يبلغ 184 في المائة ، بالمقارنة مع نمو التجارة الكونية بالسلع بنسبة 11 في المائة، ونمو إجمالي الناتج المحلي العالمي ينمو بنسبة 85 في المائة .
على حين أن التدفقات إلى البلدان المتنامية كانت نفس المدة ، حيث كان لاتزال هي الاستثناء خلال سنتي 1995- 1996 ( حيث شكلت 34 في المائة من إجمالي التدفقات) ، فإن النمط الذي تأسس للبلدان المتقدمة في بكور الثمانينيات عاد ليثبت وجوده ثانية بعد العام 1992 .
أما بعد أزمة الأسواق الأسيوية الناشئة التي نشبت خلال العامين ( 1997 - 1998)،
فقد أحدثت تغيرات مأساوية وأحيانا أخرى عاصفية في البلدان النامية 12)، ولكن من دون أن تتضح معالم اتجاه هذا التغير . فإن طغى الغموض والركود ، خفت التدفقات .
أما إذا صارت هذه الاقتصاديات ليبرالية ، وانفتحت أمام نشاط الإندماجات والحيازات الغربية، فإن التدفقات مرشحة للاتساع . إن أسباب التزايد بعد سنة 1992 متعددة . ولعلها تمثل في الفترة الأخيرة ، استجابة للبيرالية الكبيرة التي طالت الاستثمار الأجنبي المباشر في البلدان المتقدمة والمتنامية على حد سواء .
ولكن أي بحث في مختلف الاستراتيجيات التي تتبعها الشركات والحكومات في إطار الاستثمار الأجنبي المباشر ، ينبغي ألا يعمينا عن رؤية السمة الطاغية لهذه العلاقات ، ذلك أن 60 في المائة من تدفقات الاستثمار الأجنبي جرت بين الكتل الثلاث ( أمريكا ، وأوروبا، واليابان ) خلال الفترة 1991- 1996 ، علما بأن هذه البلدان احتلت 75 في المائة من إجمالي الأرصدة المتراكمة للاستثمار الأجنبي المباشر في سنة 1995 ، وقد هيمنت الكتل الثلاث على الاستثمارات العالمية ، سواء كمنشأ تصدر عنه الاستثمارات أو كمستقر تتوجه إليه .
وقد تميزت تدفقات الاستثمار بكثافة عالية بين أمريكا الشمالية وأوروبا الغربية . أما اليابان فقد بقيت مصدرا صافيا للاستثمار الأجنبي المباشر إلى هاتين المنطقتين في سنة 1996. هناك اشتراط واحد في هذه الحالة وهو ، كما ذكرنا سابقا ، أن ثمة أهمية متنامية لبعض البلدان كمصدر للاستثمارات الأجنبية المباشرة اعتمادا على نشاط شركاتها المحلية متعدية الجنسيات . وقد أثر هذا الميل بوجه خاص في بلدان شرق وجنوب شرق آسيا سريعة النمو( حيث التنين الأكبر الذي استيقظ منذ خريف 1978 على عهد الراحل " دان سيان وبينغ " من سباته العميق كما تنبأ له بذلك " نابليون الأول " إمبراطور فرنسا، إضافة إلى النمور والأشبال القادمة منذ أربعة عقود ونيف متجسدة في : ( كوريا الجنوبية ، وتایوان ، وتايلاند، وماليزيا ، وإندونيسيا ... هلم جرا) (13) . كما أثر في نفر قليل من بلدان أمريكا الوسطى والجنوبية مثال : ( الأرجنتين ، والبرازيل ، والشيلي ، والمكسيك) .