الأركان والشروط الواجب توافرها في الصلح حتى يكتسب الصفة القضائية
أركان عقد الصلح
التراضي
عقد الصلح عقد رضائي في الشريعة الإسلامية، لانعقاده يكفي المتعاقدين الاتفاق على ماهية العقد والنزاع المراد حسمه، وعلى الخصوص النزول المتبادل لطرفيه وسائر الأركان الأخرى. والصلح لا يتم عادة إلا بعد مفاوضات طويلة ومساومات وأخذ ورد، لذا وجب تبيان متى تم الاتفاق النهائي إذ لا يجوز الوقوف عند أية مرحلة من مراحل التفاوض ما دام الاتفاق النهائي لم يتم بعد.
وعليه فالتراضي التام هام في عقد الصلح لكونه منه للخصومة وقاطع لها، فإذا انعدم التراضي فات المقصود من هذا العقد وظل النزاع قائما عكس العقود الأخرى التي ترد على إنشاء عقد ابتدائي. والتراضي أمر باطني لا يظهر إلا بما يدل عليه، وفي هذا الإطار فهو لا يخرج عن أحد الأمرين:
• الأمر الأول: الرغبة في آثار العقد أي الارتياح النفسي لهذه الآثار وهو ما يصطلح عليه من لدن الفقهاء المعاصرين وفقهاء القانون بالإرادة الباطنة.
• الأمر الثاني: ما يدل على الرغبة من لفظ أو كتابة أو إشارة، وهذا ما يسمى "بالإرادة الظاهرة" والتي تعبر في نفس الوقت عن الإرادة الباطنية.
بناء على ما سبق، فلا يمكن الحديث عن عقد الصلح إلا بإيجاب أحد المتعاقدين وقبول الطرف الآخر الملزم بمطابقته للأول، ويمكن التعبير عن الإرادة بشكل صريح أو ضمني، لكن في هذه الحالة فعلى المعني بالأمر أن يتخذ موقفا لا يدع مجالا للشك للدلالة عما بنفسه، مع الإشارة إلى أن سكوت أحد الطرفين لا يستفاد منه قبوله للصلح، بل يجب أن يقترن ذلك بما يدل على قبوله.
وقد يلتبس الرضا ببعض المؤسسات المشابهة له، كما هو الحال لعنصر الاختيار، مما يحتم علينا التساؤل عن مدى تلازمهما، بتعبير آخر هل إذا وجد أحدهما وجد الآخر أم العكس. في هذا الصدد فالأحناف هم وحدهم الذين اختصوا بالتفرقة بينهما خلافا لسائر الأئمة الآخرين الذين ساروا في اتجاه تلازمهما فهم يعتبرون الاختيار هو القصد إلى التلفظ بالعبارة.
بينما الرضا فهو الرغبة في آثار العقد عند التلفظ مما يدل على إنشائه. ونعتقد من جهتنا أن الاختيار يختلف تماما عن الرضا، لأن المعني بالأمر قد يقصد العبارة ويتلفظ بها، لكنه غير راض بالآثار المترتبة على عباراته وهذا ما نلمسه في كل من الهازل والمكره.
وعموما فإذا انعدم التراضي في عقد الصلح كان العقد باطلا بطلانا مطلقا، وظل النزاع قائما، إذ لا يمكن لأحد الاحتجاج على غيره، ولا حتى على الطرف المتعاقد معه.
ويسري على انعقاد الصلح بتوافق الإيجاب والقبول القواعد العامة في نظرية العقد، وفي ذلك التعبير عن الإرادة، ومدى الاعتداد بالإرادة الظاهرة أو الباطنة، والوقت الذي ينتج فيه التعبير عن الإرادة، ومتى يقترن الإيجاب بالقبول، وفقدان الأهلية إلى غير ذلك، وعليه سوف نقتصر على دراسة شروط صحة التراضي من جهة (ثانيا)، والوكالة في الصلح من جهة أخرى (أولا).
الوكالة في الصلح
أجاز المشرع المغربي طبقا للمواد المنظمة لعقد الوكالة، إبرام عقد الصلح عن طريق الوكالة، واشترط بالخصوص أن تكون وكالة خاصة لا عامة، لأن هذه الأخيرة تقتصر على أعمال الإدارة دون غيرها، لذلك لم يتم اعتمادها لنقل أو تقرير الحقوق.
وفي السياق ذاته فهذه الوكالة لا تشملها وكالة التقاضي التي تحتاج بدورها إلى تخصيص دقيق ومحدد على سبيل الحصر، وهذا ما اعتمده المشرع المغربي في المادة 832 من ق. ل. ع المغربي، ومن تم فلا يمكن للوكيل ولا المحامي أن يصالح على حقوق موكله ما لم يكن منصوصا على ذلك في عقد الوكالة، فإذا وكل أحد أحدا بدعوى وصالح عليها دون إذنه فلا يصح صلحه هذا.
ويبقى العقد موقوفا على إجازة الموكل، والحديث نفسه يقال على الوكالة بالصلح فهي بدورها لا تستلزم الوكالة بالخصومة لأن في معنى الخصومة التوصل إلى إثبات الحق، خلافا للصلح الذي قد يكون إسقاطا أو بيعا أو إجازة.
ولا يشترط في الوكيل أن تتوفر فيه نفس الأهلية المطلوبة في الموكل، فيكفي أن يكون مميزا متمتعا بكامل قواه العقلية، ولو لم تكن تلك التصرفات صالحة في حق نفسه لكونه يبرم العقد باسم موكله وهذا ما يقودنا للقول أنه يسوغ للشخص أن يجري باسم الغير ما لا يستطيع أن يجريه بالأصالة عن نفسه.
وهذا ما اعتمده المشرع المغربي في المادة 880 من ق. ل. ع، كما يجب عليه ألا يتجاوز تلك الصلاحيات التي منحت له بمقتضى عقد الوكالة، فإذا تجاوزها فصلحه يعد باطلا حتى وإن كان الأمر ناتجا عن تفسير أو غموض لعبارات الصلح لأن في الشك قول للموكل دون غيره.
ويمكن للشخص أن يوكل وكيلين من أجل إجراء الصلح، لكن إذا انفرد أحدهما بإبرامه، فالصلح هنا يقع باطلا حتى ولو تعلق باستحالة حضور الطرف الآخر (م 896). إذا كان الأمر كذلك، فماذا يمكن القول عن الوكالة في إجراء الصلح إذا تعلق الأمر بالحالة الشخصية (الصلح بين الزوجين)؟ خاصة إذا تعذر على الأطراف أو أحدهم حضور جلسة الصلح؟
شروط صحة التراضي
لم يشترط المشرع المغربي شروطا معينة لصحة عقد الصلح، لذلك كانت الشروط اللازمة لصحته، هي نفسها المتطلبة في باقي العقود الأخرى والتي يمكن إجمالها في توفر الأهلية لدى المتصالحين (أ)، وخلوا إرادتهما من العيوب التي قد تشوبها (ب)، وإن افترضنا أن الأمر كذلك، وأصبح العقد صحيحا منتجا لكل آثاره تجاه أطرافه وكذا تجاه الأغيار، فكيف إذا يمكن إثباته من أجل الاحتجاج به على هؤلاء؟ (ج).
الأهلية المطلوبة لدى المصالحين
إن الأهلية الواجب توافرها في كل من المتصالحين هي أهلية التصرف في الأشياء التي يرد عليها الصلح، لأن الطرفين في هذه الحالة يعملان على إبرام عقد معاوضة متمثل في تنازل كل منهما عن جزء من ادعائه نظير تنازل الطرف الآخر، من هنا كان اشتراط أهلية التصرف أمر ضروري، وهذا ما يمكن أن نلاحظه في المادة 1099 من ق. ل. ع: "يلزم لإجراء الصلح التمتع بأهلية التفويت في الأشياء التي يرد عليها الصلح".
وتكتمل أهلية التصرف بإتمام الفتى والفتاة المتمتعتين بقواهما العقلين، ثمان عشرة سنة شمسية كاملة وفقا للمادة 209 من مدونة الأسرة المغربية، وعليه، فالبالغ الرشيد له أهلية كاملة في الصلح على جميع حقوقه ما لم يكن محجورا عليه لسبب من أسباب التحجير أو ممنوعا بسبب مرض الموت أو فقدان الأهلية أو غيرها. وعلى العكس من ذلك، فإن الصبي الغير المميز ليس له في الأصل إمكانية التصرف في أمواله، لانعدام إرادته.
من هذا المنطلق فهو لا يمتلك حق الصلح على حقوقه، مما يفتح المجال لوليه لكي يصالح عليه بناء على إذن القاضي، خاصة إذا كان محل الصلح عقارا أو محلا تجاريا أو أوراقا مالية أو كان مالا موروثا. ويمكن تمديد الحكم ذاته إلى حالة الصبي المميز الذي يقوم بتصرفات من شأنها أن تضر بذمته المالية، كأن يتصالح مع غيره من أجل التبرع بكل أمواله أو نحو ذلك. إلا أن الأمر يختلف تمام إذا كانت تصرفاته تعود عليه بالنفع فهنا يقع صلحه صحيحا ويعتد به.
أما بالنسبة لوضعية المرشد فهي لا تطرح أي إشكال لكونه يعتبر في هذه الحالة كاملا للأهلية لتعتبر كل تصرفاته صحيحة ومن تم فصلحه منتجا لكل آثاره تجاه أطرافه وتجاه الأغيار.
خلو الإرادة من العيوب
إن الإرادة في هذه الحالة، تكون موجودة لكنها غير حرة، بحيث تأتي مشوبة بعيب من العيوب كالغلط، والتدليس، والإكراه. لذا يكون مصير العقد هو القابلية للإبطال المخولة لصحية أحد هذه العيوب، خلافا لحالة الإرادة المنعدمة، التي يكون في إطارها العقد باطلا، وهكذا سنعرض لكل واحد من العيوب المذكورة أعلاه.
* الغلط: فهو الاعتقاد الذي يتولد في ذهن المتعاقد فيجعله يتصور الأمر على غير حقيقته فيدفعه للتعاقد، من هذا المنطلق، فإن المشرع المغربي خول إليه إمكانية طلب إبطال ذلك العقد، ما دام الأمر متعلقا بغلط مادي في شخص المتعاقد الآخر، كأن يتصالح مع شخص يظنه فلانا فإذا به غيره أو في صفته أو الشيء الذي كان محلا للنزاع.
إلا أن هذا التصور يختلف تماما كلما تعلق الأمر بغلط في القانون. ففي هذه الحالة وطبقا لمقتضيات المادة 1112 من ق. ل. ع المغربي ، فالمشرع اعتبر الطعن غير جائز، إذ يكون هذا الأخير قد خرج عن القواعد العامة، التي تعتبر الغلط في القانون كالغلط في الواقع، أسباب كلها تخول لصاحبها إمكانية المطالبة بالإبطال .
وعموما، فتوجه المشرع المغربي هذا لا يتعارض مع مقتضيات الشرع الإسلامي، إذ لا يجوز أن يحمل شخص على غير قصده، مصداقا لقوله تعالى: ليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان الله غفورا رحيما.
* التدليس: وهو المتمثل في الوسائل الاحتيالية المستعملة من طرف المدلس أو نائبه أو شخص من الغير يهدف تغليط الطرف الآخر ودفعه للتعاقد.
وعليه، فإن كان أحد المتعاقدين ضحية تدليس، فالمشرع خول إليه طبقا لمقتضيات المادة 1111 من ق. ل. ع المغربي إمكانية الطعن في الصلح، ولا يتم هذا إلا بتوفر شرطين أساسيين أحدهما مادي والآخر معنوي:
فبالنسبة للشرط المادي، فهو يتجلى في استعمال تلك الوسائل الاحتيالية لإيقاع المتعاقد الآخر في الغلط ودفعه للتعاقد.
أما بالنسبة للشرط المعنوي، فيكمن في كون تلك الوسائل المستعملة هي المؤثرة في إرادة المدلس عليه إذ لولاها لما أقدم على إبرام العقد، ومن جهة أخرى فغاية المدلس هي تحقيق غرض غير مشروع.
* الإكراه: هو إجبار شخص على عمل غير مشروع قانونا وبدون رضاه، فمن تم فصلح المكره يعد باطلا وفقا لما ذهب إليه المالكية والشافعية والحنابلة، وبالتالي فلن يترتب عليه أي أثر مصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم: "رفع عن أمتي النسيان والخطأ وما استكرهوا عليه".
هذا على عكس الأحناف الذين يعتبرون العقد منعقدا لكنه فاسد، أي لا يترتب عليه أثر ويكون للمكره بعد زوال الإكراه الخيار بين الفسخ والرجوع لانعدام إرادته. فبالنسبة للمشرع المغربي فيمكن القول أنه ساير روح الشريعة الإسلامية حين اعتبر الإكراه مؤثرا في إرادة المتعاقد، من هنا أجاز إليه الحق في الطعن، اعتمادا على القواعد العامة للإكراه وهذا ما نلمسه من خلال مقتضيات المادة 1111 من ق. ل. ع.
وبذلك فالقانون الوضعي يتفق مع الفقه الإسلامي في اعتبارهما العيب مؤثرا في صحة عقد الصلح.
وتجدر الإشارة إلى أنه للأخذ بالأحكام المتعلقة بالإكراه فقد اشترط أن يتم استعمال وسائل للضغط على إرادة المكره، والتي من شأنها أن تولد في نفسيته خوفا يدفعه للتعاقد، ناهيك عن مبتغى المكره في تحقيق غرض غير مشروع.
الإثبات في عقدا الصلح
اشترط المشرع المغربي ضرورة الكتابة من أجل إثبات عقد الصلح، لكونه يتضمن عادة شروطا واتفاقات معقدة ثمرة مساومات ومفاوضات طويلة، إذ لو اعتمدنا في إثباتها على شهادة الشهود، فإن ذاكرتهم قد لا تعي كل ذلك، الأبعد من هذا أن الصلح قد شرع لحسم النزاع ومن تم فلا يجوز أن يخلق هو الآخر نزاعا آخر قد ينشأ عن إباحة إثباته بالبينة.
واشتراط المشرع هذا يتعلق بكتابة إثبات لا انعقاد ليؤكد من جديد أن عقد الصلح عقد رضائي يكفي لقيامه توافق الإيجاب والقبول، وعليه إذا لم يوجد هناك سند كتابي نتيجة مانع مادي أو أدبي، أو وجد لكن تم فقده لسبب من الأسباب فيمكن الأطراف الخصومة إعمال وسائل الإثبات الأخرى التي قررها مشرع المغربي في المادة 404 من ق. ل. ع.
وتجدر الإشارة إلى أنه إذا شمل الصلح إنشاء أو نقل أو تعديل حقوق على عقارات أو غيرها من الأشياء التي يمكن رهنها رهنا رسميا فلا يمكن لأطراف هذا العقد أن يواجهوا به الأغيار الخارجين عن العقد، إلا إذا سجل في السجل العقاري وبنفس طريقة تسجيل البيع، لأن الصلح معاوضة كالبيع وبذلك فإبرام عقد الصلح هنا يجب أن يكون كتابة وهذا ما قاله المشرع المغربي في المادة 1104.
المحل في الصلح
الصلح كما قدمنا حسم لنزاع الجانبين بتضحية كل منهما بجزء من ادعائه وبذلك يكون محل الصلح، هو ذلك الحق المتنازع فيه، وكذا النزول المنصب عليه، ومن جهة أخرى قد يتنازل أحدهما عن الحق كله مقابل مال يؤدى إليه من لدن الطرف الآخر، فيكون هذا البدل محلا للصلح أيضا.
ويتعين أن تتوفر في محل الصلح كافة الشروط الواجب توافرها في محل الإلتزام بوجه عام، إذ يجب أن يكون موجودا، ممكنا، معينا أو قابلا للتعيين، وهي لا تطرح أي إشكال لتطابق أحكامها مع القواعد العامة، وبوجه خاص أن يكون مشروعا وهذا ما اعتمده المشرع المغربي في المادة 1110 من ق. ل. ع:
"لا يجوز الصلح في المسائل المتعلقة بالحالة الشخصية أو بالنظام العام أو بالحقوق الشخصية الأخرى الخارجة عن دائرة التعامل، ولكن يسوغ الصلح على المنافع المالية التي تترتب على مسألة تتعلق بالحالة الشخصية أو على المنافع التي تنشأ من الجريمة".
تطبيقا لذلك فلا يجوز التصالح على الأمور المتعلقة بالنظام العام (أولا)، ولا المسائل المتعلقة بالحالة الشخصية والأهلية (ثانيا) على العكس من ذلك يمكن اعتماده بالنسبة لتلك الحقوق المترتبة عن الحالة الشخصية (ثالثا).
عدم جواز الصلح في المسائل المتعلقة بالنظام العام
يشترط في محل الصلح أن يكون داخلا في دائرة التعامل، شأنه في ذلك شأن باقي العقود الأخرى، وبتعبير آخر ألا يكون مخالفا للنظام العام. فالنظام العام هو كل ما يمس كيان الدولة ويتعلق بمصالحها، كانت سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية، والتي تحاول تحقيقها من أجل الرقي والسير في عزة وأمان ، وعليه فلا يجوز الصلح على الأموال العامة للدولة من ممتلكات ورسوم وضرائب مستحقة ومقررة بصفة نهائية.
والأمر لا يقف عند هذا الحد، بل يمتد إلى إجراءات التصالح التي يعتبرها المشرع من النظام العام، إذ لا يجوز للقاضي أن يخالف مقتضياتها إذا كانت مفروضة عليه قبل الإقدام على أية خطوة ثانية، وهذا ما نلاحظه بالنسبة للقضايا المتعلقة بالأسرة.
فقد صدر عن قرارات المجلس الأعلى عدة تسير في نفس الإتجاه ومن بينها القرار رقم 164 الصادر في 19 أبريل 1980 في الملف الاجتماعي عدد 81153 الذي جاء فيه: "...إن إجراء التصالح من النظام العام".
وينطبق نفس الحكم على كل صلح، أبرم بشكل مخالف للآداب العامة، التي تمثل الجانب الخلقي للقواعد العامة، كالصلح على القيام بعلاقة جنسية غير مشروعة أو ذاك المتعلق بإنشاء أو تخصيص دور للبغاء أو القمار أو الرهان، ويستثنى من هذه الأخيرة الرهان الذي يعقده المتبارون شخصيا في الألعاب الرياضية، وكل ما استثني قانونا كما هو الحال لأوراق اليناصيب.
وفيما يخص الأموال المتصالح عليها، فيجب أن تكون متداولة بين المسلمين، إذ الصلح لا ينعقد إذا كانت متعلقة بخمر أو نجسة أو دم أو لحم خنزير أو مواد مخدرة من حشيش وأفيون وما شابه ذلك من مال غير مقوم ، وكل المسائل التي تحرمها الشريعة الإسلامية، وهذا ما اعتمده المشرع المغربي في المادة 1101 من ق. ل. ع. وإذا كان مفترضا بأن تكون تلك الأموال –أي المتصالح عليها- معلومة، فالسؤال الذي يطرح، إذا كانت مجهولة فهل يصح الصلح؟ وإذا صح فهل على إطلاقه أم أن هناك بعض القيود؟ في هذا الإطار فقد انقسم فقهاء الشريعة الإسلامية إلى قسمين:
فالقسم الأول يمثله جمهور الفقهاء، وقد أجازوا الصلح عن المجهول بمعلوم فقد جاء في معين الحكام لعلاء الدين الطربلسي في صفحته المئة: "الصلح على أربعة أوجه معلوم على معلوم، ومجهول على معلوم وهما جائزان، ومجهول على مجهول ومعلوم على مجهول وهما فاسدان".
والقسم الثاني فيمثله الشافعية والذين يرون من جهتهم عدم صحة الصلح عن المجهول بمعلوم، ففي هذا السياق فقد قال الإمام الشافعي: "أصل الصلح أنه بمنزلة البيع فما جاز في البيع جاز في الصلح، وما لم يجز في البيع لا يجيز في الصلح... ولا يجوز الصلح عندي إلا على أمر معروف كما لا يجوز البيع على أمر معروف". وفيما يخص المشرع المغربي فقد حذا حذو جمهور الفقهاء وأكد من جهته على أن جواز الصلح عن المجهول بمعلوم، ويمكن القول أنه كان على صواب لأن الجهالة هنا ليست مفضية للنزاع، وما يشترط بصفة عامة إلا التحلل.
وتجدر الإشارة أن كل ما يمس المجتمع في روحه ويزعزع استقراره فلا يصح بشأنه أي صلح، وهذا ما نلمسه بالنسبة للجريمة. لكون الدعوى الجنائية هي من حق المجتمع، ومن تم فهي من النظام العام، فلا يجوز للمجني إبرام عقد الصلح لا مع المجني عليه ولا مع النيابة العامة، لكن يجوز على تلك الحقوق التي تنشأ عن ارتكابها ومثاله الصلح على حق التعويض المدني.
بطلان الصلح في المسائل المتعلقة بالحالة الشخصية والأهلية
لا يجوز لأحد باتفاقه الخاص أن يعدل من الأحكام المتعلقة بالحالة الشخصية، لأن الأمر ها هنا يتعلق بالنظام العام، ويستثنى من هذه القاعدة كل ما يتعلق بالطلاق والتطليق، لأن المسألة في جوهرها لا تخرج عما نحن بصدده، وفي ذلك قوله تعالى: "وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما إن الله كان عليما خبيــرا".
ويترتب على ذلك أن كل صلح كان موضوعه متعلقا بثبوت أو نفي نسب أو صحة زواج أو بطلانه أو تعديل لأحكام ولاية أو وصاية أو بشأن حجر أو تحديد سن أو غيرها فهو يقع باطلا لمخالفته للنظام العام.
كما لا يجوز الصلح على المسائل المتعلقة بالأهلية، فمن كان أهلا للتصرف فلا يجوز له الصلح على خلاف صفته هذه والعكس بالعكس، كأن يجعل سن رشده القانوني غير ذاك الذي حدده المشرع المغربي بالزيادة والنقصان.
جواز الصلح على المسائل المالية التي تترتب على الحالة الشخصية
عكس ما قلناه آنفا، فإن المشرع أجاز الصلح على الحقوق المالية المترتبة على الحالة الشخصية، لكونها تتعلق بمصالح خاصة، والتي لا يكتسبها الشخص إلا بناء على اتصافه بحالة معينة، الأكثر من هذا، أن هذه الحقوق تدخل في إطار التقويم المالي.
من هذا المنطلق فليس هناك ما يمنع صاحبها –صاحب الحقوق- للتصرف فيها على نحو ما يراه في صالحه. وعليه فيجوز للمطلقة أن تنزل عن مؤخر صداقها أو الصلح على تقسيط أو إيجاد طريقة لأداء النفقة بعد استحقاقها، لا النفقة في حد ذاتها لارتباطها بالنظام العام وهذا ما اعتمده المشرع المغربي في المادة 1102 من ق. ل. ع بقوله: "لا يجوز الصلح على حق النفقة وإنما يجوز على طريقة أدائها أو على أداء أقساطه التي استحقت فعلا".
كما يجوز للورثة أن يتصالحوا على الحقوق التي تؤول إليهم عن طريق الإرث، كلا لفائدة أحد الورثة أو بعضها، بأن يأخذوا أقل من حقهم ونصيبهم الشرعي شرط أن يكونوا على بينة من مقدار حقهم في التركة وهذا ما عبرت عنه المادة 1103* من ق. ل. ع المغربي.
وقد يقترن هذا الحق بحق آخر له صلة بالنظام العام، ومثاله أن يتنازل من يدعي النسب عن نسبه وعن حقه في الميراث مقابل مبلغ معين، فهذا الصلح يقع باطلا برمته وذلك لانعدام التجزئة في أحكام الصلح، ويمتد الحكم ذاته للحالة التي يتم في إطارها تخصيص مبلغ مستقل لكل دعوى، لأن إدماج المسألتين في عقد واحد يكشف عما بنفسية المتعاقدين في ربط أحدهما بالآخر.
والجدير بالذكر، أنه يجوز الصلح كذلك حتى على المصالح المالية التي تترتب عن الأهلية، فالقاصر عند بلوغه سن الرشد القانوني، يجوز له أن يصالح من تعاقد معه على إجازة ذلك العقد، بشروط معينة في إطار نظرية الإجازة.
السبب في الصلح
تم تناول السبب في عقد الصلح من خلال نظريتين: إحداهما تقليدية، والأخرى حديثة.
فالنظرية التقليدية، تعتبر أن السبب هو الهدف المباشر الذي يسعى كل من المتعاقدين تحقيقه. على هذا الأساس فسبب التزام الطرفين يكون موحدا، وهو المتمثل في نزول كل طرف عن جزء من ادعائه لفائدة الطرف الآخر.
وكنتيجة لهذا اختلاط السبب بالمحل. أما النظرية الحديثة، فتعتبر من جهتها أن السبب بصفة عامة هو الباعث الدافع إلى إبرام العقد، ومن تم فسبب التزام كل متصالح هو ذلك الدافع الشخصي الذي يختلف من شخص لآخر.
وفيما يخص المشرع المغربي فطبقا لأحكام المادتين 62 و65 من ق. ل. ع فإنه لم يحسم في موقفه فيما يخص أحكام السبب، أضف إلى ذلك أنه لم يعمل على تحديد المقصود من السبب هل القصدي أو المباشر، مما فتح الباب على مصراعيه للنقاشات الفقهية بين تلك التي تتجه في اتجاه أخذ المشرع المغربي بالنظرية التقليدية وبين تلك التي تقول بعكس ذلك، مع العلم أن الاتجاه الغالب يؤكد أخذ المشرع بالنظريتين معا.
وعلى أية حال، فمن جهتنا نعتقد أن النظرية الحديثة هي التي تساير أحكام الصلح، وعليه يمكن القول أن الباعث الذي دفع المتعاقدين إلى إبرام العقد يختلف من متصالح لآخر، فقد يكون دافع أحدهما هو تفادي اللجوء للمؤسسة القضائية وما يستتبع ذلك من إجراءات طويلة ومصروفات باهضة أو الخشية من خسران الدعوى أو مراعاة لواجب الاعتراف بالجميل للخصم أو غير ذلك من البواعث.
ويشترط أن يكون سبب عقد الصلح مشروعا أي غير مخالف للنظام العام والآداب العامة، إذ لا يجوز التصالح مع امرأة من أجل المحافظة على علاقة غير شرعية أو التصالح مع آخر من أجل تخصيص دور للقمار أو الدعارة، وإن تم القيام بذلك فالعقد باطل لعدم مشروعية الباعث.
الشروط الواجب توافرها في الصلح حتى يكتسب الصفة القضائية
الصلح القضائي هو الذي يحصل في مجلس القضاء بصدد خصومة قائمة أثناء السير في إجراءاتها بقصد وضع حد لها، وحسم للنزاع بين أطرافها، عكس الصلح غير القضائي الذي يتم بعيدا عن دواليب المؤسسة القضائية.
وعموما فليس لهذا التقسيم أهمية تذكر لكونهما يستويان في تطبيق أحكام الصلح، إلا أن الشيء الوحيد الذي ينفرد به هذا الصلح القضائي هو تحريره في سند واجب التنفيذ، وهو محضر جلسة الصلح (الفقرة الثالثة)، تبعا لتصديق القاضي (الفقرة الثانية)، ولا يمكن تصور هذا كله إلا بحضور الطرفين وإقرارهما بالصلح أمام المحكمة (الفقرة الأولى).
إقرار الطرفان بالصلح أمام المحكمة
حضور الطرفين أمام المحكمة أمر إلزامي فيما يخص الصلح القضائي، ليقر كل منهما بما تم الاتفاق عليه في عقد الصلح، ويستوي أن يكون حضور المتصالحين بشكل شخصي أو بواسطة ممثلهم القانوني ذي الوكالة الخاصة لا العامة كما قلنا من قبل، ولا يكفي أن يكون هناك عقد صحيح قائم بين الطرفين مثبتا في ورقة عرفية وموقع عليه من لدن الطرفين.
ولا يمكن للمحكمة أن تقوم بالإشهاد على الصلح إذا تخلف أحد المتعاقدين أو كلاهما أو امتنع أحدهما عن التوقيع، أو هما معا رغم حضورهما للجلسة. فإذا عملت المحكمة على إثبات الصلح بالرغم من تخلف أحد هذه الشروط فهي بذلك تكون قد عملت على خرق البنود القانونية.
وعليه جاز لصاحب المصلحة الطعن في قرارها هذا بإحدى طرق الطعن المناسبة. وعلة هذا الشرط تكمن في اكتساب الصلح لصيغته التنفيذية بمجرد التصديق عليه إذ لا يمكن لأحد من المتعاقدين التحرر ولا الرجوع في الصلح ولو باتفاقه مع الطرف الآخر، ما لم يكن قد أبرم هذا الصلح باعتباره مجرد عقد معاوضة.
وهذا ما اعتمده المشرع المغربي في المادة 1106 من ق. ل. ع: "لا يجوز الرجوع في الصلح ولو باتفاق الطرفين ما لم يكن قد أبرم باعتماده عقد معاوضة". وبذلك يجب على المحكمة أن تتأكد بنفسها أن الطرفين أقرا بالصلح، ولن يتأتى هذا إلا بحضورهما أمامها وتوقيعهما على محضر الصلح.
إشهاد القاضي على الصلح
بعرض أطراف الخصومة عقد صلح على القاضي من أجل حسم النزاع القائم بينهما، فلا يكون أمامه سوى الإشهاد عليه، بعد اتخاذه لكل الإجراءات اللازمة لذلك ما دام متعلقا بمصالح شخصية، فبفعله هذا يكون قد عمل على مساعدة المتقاضين من أجل التوصل إلى حل سلمي ومرض لكل منهما، ومن جهة أخرى، يكون قد خفف العبء عن الجهاز القضائي.
ولا يمكن للقاضي أن يقوم بالتصديق على الصلح من تلقاء نفسه، بل يجب أن يطلب منه ذلك من طرف المتصالحين لكونه في هذه الحالة يلعب دور الموثق الذي يثبت حصول الصلح بصفة رسمية أمامه. وينعقد اختصاص الإشهاد على الصلح للمحكمة المختصة بالنظر في الدعوى الأصلية سواء كانت ابتدائية أو استئنافية أو غيرها.
وفي السياق ذاته فبمجرد تصديق القاضي ورئيس المحكمة يصبح ذلك العقد ذا قيمة تنفيذية، ولا يمكن لأحد أن يتحرر من التزاماته إلا بالطعن في ذلك الصلح بالزور. وتجدر الإشارة إلى أنه إذا لم يتم التوصل إلى صلح بين الطرفين إلا أثناء سير إجراءات الدعوى، ففي هذه الحالة فجميع القضاة المكلفين بحسم النزاع ملزمين بالإشهاد على محضر الصلح.
إثبات الصلح في محضر الجلسة
قد يتوصل أطراف الخصومة إلى اتفاق بخصوص النزاع القائم بينهما أثناء سير الدعوى بعيدا عن المحكمة طالبين منها الإشهاد عليه، ففي هذه الحالة فالمحكمة ملزمة بأن تفعل ما طلب منها بعد أن تتأكد من أهلية المتصالحين، وأن المسألة المراد التصالح عليها غير متعلقة بالنظام العام إلى غير ذلك من الاعتبارات.
ومن جهة أخرى لا يجوز للقاضي الاستمرار في تنفيذ إجراءات الدعوى متجاهلا ما توصلا إليه الطرفان، لأن الصلح كما هو معلوم منه للخصومة ومن ثم فالقاضي يصح عندئذ غير ذي ولاية على أطراف الخصومة. وفي جميع الأحوال فبمجرد إثبات المحكمة يكتسب هذا الصلح صفته القضائية.
وما يجب الإنتباه إليه أن عقد الصلح يعد موجودا من اللحظة التي اتفق فيها الأطراف فيما بينهم وليس منذ إثباته في محضر الصلح، وهذا يؤكد من جديد أن عقد الصلح عقد رضائي لا يحتاج إلى أي شكل خاص لوجوده.
مراجع موضوع الصلح القضائي أركانه وشروطه
- - ذ. محمد الشرقاني: "القانون المدني". دار القلم، الرباط. الطبعة الأولى، 2003.
- - محمد عزمي البكري: "العقود المدنية الصغيرة". ج: 1. دار الجامعة الجديدة للنشر 2001.
- - عبد الرزاق السنهوري: "الوسيط في شرح القانون المدني". ج: 4. الطبعة غير واردة.
- - محمد محجوب عبد النور: "الصلح وأثره في إنهاء الخصومة". دار الجيل بيروت. 1987.
- - ذ. محمد الكشبور: "قانون الأحوال الشخصية، الزواج والطلاق". مطبعة النجاح الجديدة. طبعة 1991. "قرار غير منشور".
- - عبد الكريم شهبون: "الشافي في شرح ق. ل. ع المغربي". ج: 4. مكتبة الرشاد. 2002.